25 كانون الثاني، 2025: مع إعلان قادة دولة الاحتلال، وبالتزامن مع إجراءات وقف العدوان على شعبنا في قطاع غزة، عن تحويل ساحة الضفة الغربية إلى ساحة حرب رئيسية مرة أخرى، ها هي الضفة الغربية، تشهد واحدة من أكبر ذروات العدوان عليها، بل تكاد تكون كل بقعة جغرافية منها هذه الأيام مسرحاً من نوع خاص لاعتداء يرقى من جهته إلى مستوى جريمة الحرب.
لقد صعدت جرائم المستعمرين إلى مستويات غير مسبوقة، ليس على صعيد الإحصائيات والأعداد والمؤشرات وحسب، بل على صعيد المنحنيات الخطرة التي باتت منهجاً ثابتاً لدى المستعمرين وصناع قرارهم داخل حكومة الاحتلال؛ جرائم مستمرة دون توقف، تهدف إلى إجبار أصحاب الأرض على الرحيل، هذا ليس هدفاً سرياً بالمناسبة، بل يعلنه قادة دولة الاحتلال جهاراً نهارا، وطوال الوقت، ومن جهة موازية تستمر آلة التدمير في اقتحام قلب المدن الفلسطينية، لا سيما في شمال الضفة الغربية، بكامل إمعانها في تخريب البنية التحتية واستهداف المخيمات وإعدام الناس دون أن تكون رفة الجفن واردة في ثقافة الطارئين على الزمن الفلسطيني العتيد.
إن جرائم المستعمرين، التي تتجاوز فكرة العنف البدائي، إلى مبدأ الإرهاب المرعي من المؤسسة الرسمي، لا يمكن النظر إليه باعتباره معزولاً عن السياق الاستعماري، بل أصبح مؤسساً في هذا السياق، يقترف الحرائق والإعدام وترحيل المواطنين، والأخطر من ذلك، أن دولة الاحتلال أصبحت تحميه ببيئة تشريعية حاضنة، تقدم له الدعم والرعاية والحصانة.
وفي الجهة المقابلة، وإذ تتفنن دولة الاحتلال في اختراع أسباب قهر الفلسطينيين، وعلى امتداد جغرافية الأراضي الفلسطينية هذه الأيام، بحواجز الجحيم التي تحرق الوقت والصحة والعيش، فإن هذا التفنن في تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم وعذاب مستمر، لم يكن ليكون إلا لأن العالم توقف تماماً عن كونه حارساً لحقوق الإنسان، ورادعاً لمسلكيات الإجرام التي ينتهجها كيان الاحتلال الأخير على وجه الأرض والتاريخ، ليترك الفلسطيني الأعزل في محصلة الأمر فريسة البلطجة والتوحش.
وفي خلفية مسرح الأحداث المرعب الذي يعصف في الأرض الفلسطينية هذه الأيام، كانت الأصابع تشير إلى وعودات ائتلافية قميئة قدمها رئيس حكومة الاحتلال لوزراء الصهيونية الدينية من أجل صدهم عن إسقاط الحكومة، ثمة ما يؤشر من جديد إلى ذهن احتلالي مريض يرى بالانقضاض على الفلسطينيين وجغرافيتهم ونمط حياتهم ودمائهم مادة للسياسة والتفاوض من أجل حسابات سياسية رخيصة، هذه المادة لم تبدأ بالطبع هنا وفي هذا الوقت، بل بدأت من لحظة صفر الاحتلال، التي تصاعدت على مدار سبعة عقود ووصلت إلى واحدة من أخطر ذرواتها هذه الأيام.
لقد أثبتت دولة الاحتلال، وعلى مدار سنوات الاحتلال الطويلة، أن منهجية الإغلاق الشامل للجغرافية الفلسطينية، المتمثلة بالحواجز والمعابر والبوابات وجدار الضم والتوسع، لم يكن الهدف منه التحكم في سير وحركة الفلسطينيين على الشوارع وحسب، بل أرادت من خلال ما يزيد عن 898 بوابة وحاجزا وساتراً وجدار يصل طوله إلى أكثر من 700 كم، يقضم الأرض ويتلوى فيها مثل الأفاعي، أن تعيد تشكيل الجغرافية الفلسطينية بأهواء المحتل المريضة، محيلة جغرافية الفلسطينيين ووجودهم إلى معازل وكانتونات ضيقة، طاردة للعيش والسكن، وخاضعة لأعتى منظومة الرقابة والتحكم في حياة الواقعين أسفل الاحتلال، معدمة تماماً إمكانية التواصل ليس فقط بين محافظتين متجاورتين، بل تتعداها إلى إعدام التواصل بين القرية والقرية التي تجاورها.
وعلى الطرف المقابل من كل ذلك، لم تتوقف منهجية السيطرة على الأرض ونزع ملكية الأرض من أصحابها الأصليين لحظة واحدة، في منهجية أبعد ما تكون من خلاله عن العشوائية، بل في إمعان في إحكام القبضة والسيطرة على المفاصيل الاستراتيجية من الجغرافية الفلسطينية، من أجل تحقيق هدف إعدام إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل، مشرعة هذه الجغرافية المسلوبة لموضعة المزيد من المستعمرات والبؤر الاستعمارية، حتى تكون مسرحاً للوصول إلى هدف المليون مستعمر مع حلول العام 2030 وهو الهدف الذي أعلنه ما يسمى بمجلس المستوطنات، وهو الذراع السياساتي الاستعماري لدولة الاحتلال، الذي أثبتت الدلائل والمعطيات في الفترة الماضية أنه المسؤول عن رسم سياسات الاستيطان الاستعماري فيما تتولى أذرع دولة الاحتلال الرسمية مهمة تنفيذ هذه السياسات بالحذافير.
لم يكن لهدف المليون مستعمر أن يتحقق،ـ وهذا ما يدركه تماماً قادة مشروع الاستيطان الاستعماري، إلا بمجموعة كبيرة من الإجراءات، تتجاوز إقامة المستعمرات والبؤر، بل تتعداها إلى منح امتيازات بمليارات الشواكل تعيد صياغة البنية التحتية والشوارع ومشاريع الطاقة وأبراج الاتصالات والضرائب المخفضة في الأرض الفلسطينية لصالح المستعمرين، وقبضة أمنية محكمة على رقاب الفلسطينيين، تبدأ بإغلاق الشوارع ولا تنتهي عن حدود طردهم وتفريغ جغرافيتهم تماما.
إن الشعب الفلسطيني وهو يقف هذه الأيام على محك المخططات السوداء، التي تحاك في عتمة الغرف المغلقة، وقد أثبت تماماً أثناء النكبة وبعدها وأثناء النكسة وما تلاها، وأثناء المجازر وما خلفته من ندوب وجروح في وعيه الجمعي على قدرته على المواجهة، وقدرته على الصمود والاستمرار، لا بد له هذه الأيام يحمل أدواته القديمة المحمولة على الوعي والصبر والعقيدة إلى أفق أرحب للمواجهة، أفق يقوم على الوحدة الوطنية المنضوية أسفل استراتيجية وطنية تشمل الكل الفلسطيني، تعالج الصدوع الداخلية، بالتمتين والرفعة والوعي، وتنطلق إلى العالم لإيصال رسالة وحقيقة ما يحدث، تحشد أحرار العالم، وتبني جبهة جديدة تنحاز للعدل وإنصاف حقوق المقهورين في أطهر بقاع الأرض، فلسطين.
رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان